بشغف وفرحة أمسكت بورقتها و لاحظت درجاتها الـ 29.5 من30 في مادة اللغة الفرنسية ، كان أول اختبار تجتازه في المرحلة الثانوية
اليوم سأثبت لوالدي وأسرتي ومعلميّ أنني على نفس الدرجةمن التفوق التي عليها شقيقتي الكبرى، ليست هي وحدها فقط المتفوقة..
لطالما ظُلمت لهذه المقارنة التي عقدت على مدار 10 سنوات حتى قبيل دخولها للمرحلة الابتدائية لهذا اختارت مسلكا خاصا بها في الدراسة الثانوية يختلف عن مسار شقيقتها حتى تتوقف هذه المقارنة لمرحلة من الزمن تعيش فيها أحلامها وطموحاتها الخاصة ..
أسرعت الخطى وركضت كطفل يريد اللحاق بآخر لعبة يحبها من محل الهدايا .. أمتار قليلة تفصلها عن منزلها ، لم تشعر كم من الوقت سارت أو بالأحرى ركضت فالأرض كانت تطوى تحت قدميها من فرط السعادة ..
لحظات وأقابل أبي الذي كان دوما معي وبجواري في كل اختباراتي منذ بدأتها في المرحلة الابتدائية وكان يستذكر لي دروسي وينتظرني خارج"اللجنة" وفور خروجي يراجع معي الاختبار لنحصد معا الذكريات ..
تصل المنزل فإذا بأناس لم تعتد رؤيتهم سوى في الأعياد والمناسبات الحزينة فقط ، هرج ومرج في المنزل وجميعهم في غرفة والدي .. ماذايفعلون .؟! أهو مريض كما يدعون ؟!
تنظر لورقة الامتحان ذات الدرجة شبه النهائية تحتضنها وتقول.. "أكيد هو عاوز يعرف معزته عندي قد إيه وأنا هفرحه بدرجتي وكفاية انه لم ينتظرني كالعادة بعد الامتحان " ..
مازلت أذكر جملته ليلة أمس "معلوماتك كبرت عليا مش هقدر أذاكرلك اعتمدي على نفسك بقا " .. اعتمد على نفسي !! 10 سنين و إنت المعلم والأب والأم تذاكر لي وتراجع معي دروسي وتسهر ليلة الامتحان وتعملي الساندويتشات وتوصلني للجنة وتستناني ..
لكن الواقع الصادم حينما أتت سيارة الإسعاف لنقله على الفور للمستشفى بعد دخوله في غيبوبة لم يعد يدر من الواقع شيئا ..
مازالت تمسك بورقتها في انتظار عودته سريعا من المستشفى.. فعلها سابقا وذهب إليها مرة وعاد في نفس اليوم ..
سويعات قليلة وكان أحد أقربائي يهاتفنا "تعالوا باباكوا عاوز يشوفوكوا ضروري" ..
ضروري .. لماذا ؟!! أنا لا أفهم شيئا .. هل أجلب معي ورقة الامتحان ؟!!!
ذهبت للمشفى لم أدر ما الذي يحدث أناس يغلب على وجوههم الوجوم والشفقة احتضنونا "أحضان باردة"
نظرات متتبعة ومتتابعة ومختلطة حائرة بيني وبين شقيقتي وأمي التي تبكي بحرقة
أقبلنا على أبي الذي لم يستطع التعرف علينا وكان في واقع غير الذي نعيشه.
عيونً زائغة وجسد نحيل لا يكد يتبين من الفراش حجمه وبشره شديدة البياض وأنفاس متهدجة وصوت متقطع بكلمات غير
مفهومة بهلاوس "البراق.. أمي .. انتظر .. خضر .."
وأسلاك كهربائية تتبارى للفتك بحلاوة الروح
لم أفهم هل جُنَ أبي .. !!
استدرت وشقيقتي بعدما قبلناه دقائق وآتانا الخبر " مات"
كيف
هو وعدني بالبقاء بجواري.. أول وعد يخلفه أبي أنا لن أسامحه .. لم يخلف أي وعد معي منذ
14 عاما هي عمري ..
قطرات صغيرة .. بل عبرات .. عبرت رغما عني حتى إنني لمأشعر بها ولا بجسدي .. عيوني .. أنفي المحترق .. صدري ذو الحساسية هل يتنفس .. بل يصعد ألما ويهبط ذلا..!!
تجمد الزمن للحظات لم أعرف عددها ..
تماسك لم أره في نفسي يوما ..
كل شيء حدث بسرعة وبعد بضع دقائق وجدت نفسي في منزل العائلة الكبير بقريتي .. الكل أصبح جاهزا بملابسه السوداء
وكأنهم لديهم خبر مسبق.. هل كانوا يعلمون .. أن أبي سيخلف وعده معي !!
كأنني تعريت وأصبحت أشعر ببرد قارص .. لم ينمحي بعد 13عاما ولم أشعر بالدفء حتى في أعتي لحظات الحر شدة .
ولم أحصل على "أحضان دافئة" بعد أبي!!
دموعٌ عذراء تعاند في الخروج وتستحي أن تكشف على أحد ..
ورقتي بمنزلنا تنتظر وعد لم يتحقق ..
لم أتحدث ولم أتفوه سوى بـ"أنا بخير" وشبح ابتسامة صفراء هلامية منحوتة على شفاهي
الثانية عشر ليلا .. غلبني النعاس من فرط التعب والإرهاق..
وظهرت وأنا أركض بعد الاختبار ممسكة بورقتي والفرحة تتطاير من ملابسي قبل وجهي .. وجدت أبي كالعادة ينتظرني .. بابا أنا جبت 29.5 من30 في الفرنساوي .. ومبتسما أجاب .. وليه مجبتيش 30 .. احتضنته بشدة حضنا دافئا لم أفق منه إلا على صوت خالي .. تعالي بوسي بابا قبل ما يدفنوه ..!!