الجمعة، 10 يناير 2014

ليس بشاطئي





أية سخرية تلك يقصدها القدر حينما ترسو سفينة أحلامك على شاطئ لا يخصك، ليس بشاطئك المنشود؛ لكنه مريح جدا، ليس ملائم؛ لكنه لن يرفض احتضانك حينما تخفق، شاطئ يعدك دوما بالراحة والاسترخاء والشفاء من آلامك ووحدتك.

اعتدت التلصص بين الحين والآخر على الشطئان المجاورة عسى أن يقودني القدر إلى شاطئي يوما؛ رب صدفة أخرى تجعلني أرسو لتستقر تلك السفينة التي أوشكت مؤنها على النفاذ أستزيد وأستظل قبل الموت جوعا وعطشا للحب.

أحلام عابرة وسراب خطى بشرية تتبعتها لأجد نفسي بين أحضان الطبيعة؛ نظرة كتلك تجعلك تسلم وتقسم أن لا أحدا وطئها قبلك، أنت أول من سيغتال عذرية هذه الأرض ويستبيح كل ما فيها.

تصورت أني وجدتها مرات عديدة سابقة.. أني وجدت تلك الأرض التي تناسبني جدا هي تماما مناسبة كسفينتي؛ لكنها من إحدى سخريات القدر.. التي اعتدتها.. ألا تكون أرضي ولا أكون سفينتها التي تبحث عنها، مرة أخرى وجدت أرضا اعتقدتها أرضي واستقررت عليها لبضعة أشهر أتزود منها وأزيدها وكدت أتحطم قبل نفاذي وامتلائها.

لن أنس تلك النظرة التي انهارت أمامها قلاعي وحصوني المنيعة التي رحت سنوات عديدة أشيدها، نظرة كتلك كفيلة أن تذيب أطنانا من الجليد العاطفي، أحسست يومها أنه يحتضنني بعينيه، لم أقدر على التفوه بكلمة صرت مدهوشة أتجول بين مقلتيه حاسدة نفسي على كل هذا الحب الذي لا استحقه وتلك الأرض التي لا تخصني لأرسو عليها وتلك العصافير التي تشدو باسمي مرات ومرات وأنا أصم أذني عنها عمدا.



نضب لا إرادي لسيل من الكلمات، جف حلقي لسنوات مذ بللته نظرة كتلك، ويد حانية تشملك لتخضر كل تفاصيلك الذابلة.. السر كان يكمن في شيئين لمسة حانية، نظرة حاضنة وقاسية في آن واحد. كدت من فرط حنانها أقول "من فضلك احتضني بقوة"!.

سنوات عجاف مرت بتلك الأرض العجوز ولم يزل شبابها يانعا يفيض حبا ويروي عشقا ,غزلا؛ اهتماما لا تطمح أن تصل إليه، وزهورا لن تراها بأي شاطئ تتمناه.. عيون لامعة تقسم أنها تنزف وجدا.. فقط.. لك ! وأصوات البلابل والعصافير تغني لاستقبالك.. كل مرة!

ليس هو الكهل بل أنا، ليس قلبه من شاب بل أنا، بستانه مخضوضر وبستاني صحراء جرداء لن تنبت فيها أزهار ولن يرويها الماء.

أسرارا عديدة أردت البوح بها علني أرتاح، تجمدت شفاهي وبت أنطق كلمات لست أعنيها، ولم تكن تلك التي كنت أرتب لقولها على مدار شهور طويلة.. أكسر كل مرة لوح خشبي بسفينتي، أثقبها لأغرقها؛ أردت أن أعيبها.. حتى لا يسرقها أحدهم غصبا..

من الممكن أن تكون جردائي حسدت يُنوعه، وأرادت النيل منها، لماذا أكون وحدي الجافة واليابسة، ربما أيضا أردت النهل منها أكثر فأكثر دون أن أطأها، ربما هو الخوف أو الأنانية أو الاثنان معا.. كأن تخشى الوحدة فهي قاتلة.. لا اتخيلني يوما وحيدة دون شاطئ دون شجرة تظللني وتحميني قيظ حرارة الأيام وقسوتها.


كثرة الاستقرار بشواطئ ليست بشطآني، جعلني أخاف حد الهلع من فكرة الإرساء، كفى! كل شاطئ كان يدمرني جزئيا حتى تبقى مني الرث والبالِ وبقايا حطام لقلبٍ خالِ.. يكفيني الترحال الدائم. موعد الذهاب مر منذ سنوات؛ لكن الإياب لن يأت أبدا. كفى رسوّا كفى استقرار.

درت حول نفسي دورة كاملة أحسبني مغادرتها لأبحث عن غيرها وكل مرة تناديني تلك الأرض بالاحتضان، كيف أرفضها، والعجب أني رفضتها! كيف تطأ بأقدامك النظيفة أرضا موحلة ولا تتلطخ قدماك؟! حتما ستلطخ بها كل أرضا نضرة وكل عشب مجزوز ومشذب ومهذب ومهيأ.. فقط لك!

ربما لأني لم أجد ما يطمئنني فيها، ربما أبحث عن شيء بها، لن ولم أجده، كيف لأرض مخضرة ألا تتواجد فيها الورود وأنا أحب الورود حقا.. عين حاضنة علها تنطق بما فيها من وجد وألم، تروي غروري ولم تفعل، جذع مثمر لا أقوى على هزه ليسّاقط حبا، أتمنى لو رطبا منه عرف الطريق إلى يدي.. إلى شفاهي.. إلى قلبي وخاصري!.

تمنيت أن يكون ذلك الجذع ملاذي الأخير أحتمي به وأهرب منه إليه، تمنيت أن يُنقش عليه اسمي بدلا من أن تحمل فروعه دمي يوما ما؛ فرط الحفر بأظفاري لأنال حرية أخشى سجنها بين أوراقه التي ستكون وقتها قاب قوسين أو أدنى من الذبول والاصفرار.

بكيت مرارا في حضنه الذي تخيلته دافئا كعينيه وسهرت ليالٍ طوال أحسبها.. كم خطوة أريدها أن يسير لي هذا الجذع؛ لكن فاتني أن أحسب كم خطوة أريدها أنا كي أصله.

بت مرات أتصور كم سيكون طول الظل ولم أستظل به يوما، أردت السير حافية القدمين لألامس الخضرة بباطن قدمي الجاف حبوا وهرولة للبحث عن أرضي ولم أفعلها، كأني سجاني الذي يسجن نفسي بنفسي داخل بقايا "قارب" تبقى مني.

أسلمت شعري للهوى مرات وتركته يعبث به كما شاء يقص ويقتطع ويزمجر غاضبا ومنفرا ولم أنل حريتي إلا بالهروب وبقايا يد معلقة به مازالت تستمر في قصه وتتوضأ زيفا من ألمي..

خرافات وخيالات لكن أرض الميعاد.. لم تأت بعد.. هي فقط خطوات قليلة.. أردته منارة تتفوه بأشياء تجذبني وتطمئنني وحينما لم أجدها تراجعت أميالا وأميال.

أردته أن يشدو صداحا بالحب ولم يفعل، ربما أردت مراقبة أسراب الفيروز في عينيه .. ربما لو عرف أني أحب الغناء والرقص أسفل قطرات المطر سيغرق ليفعلها.. وربما راقص الشيطان متمثلا في على أنغام سيموفنية سوناتا التاسعة لبتهوفن قبل أن يذيب قدماي دون قصد منه.. ربما لو عرف أن الحصن الذي صنعته لنفسي بت أكسره قبل أن يسجنني آخر فيه.. لكسرني!


ورُغم ذلك أحن إلى تلك الأرض وأشتاق إليها دوما.. فهي دوما دافئة.. دوما حانية.. دوما عطوفة.. لكنها لن تبق لي على الدوام.. قاتلتها واغتلتها قبل تركها والرحيل! أسمع صراخ حفيف الأوراق التي تنهرها الرياح ليلا أصوات لم تصدر منه بل مني .. تماما كصوت الكمان الحزين.